ا قصة الطفل الذي قاد بلده في سن الثانية عشرة
كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء بتوقيت" الصحراء الكبرى" عندما بدأت أسرة احمد المكونة من أربعة أفراد تستعد لمواجهة الأمطار العاصفة التي التي بدأ بر قها يضيء من وقت لآخر،في تلك الليلة المظلمة توزع أفراد الأسرة على الأدوار بشكل عشوائي ،لشد الخيمة وتثبيتها بالحبال في الأرض لتتمكن من مقاومة الرياح..
ومع بداية تهاطل المطر دخل الجميع تحت الخيمة التي تقلص فضائها إلى أقصى حد ,حتى أصبح جميع أفراد الأسرة يجلسون في متر مربع واحد, من مترين مربعين يتقاسمهما معهم العفش الموضوع على حمالته التقليدية" أشغب ". فضل أبو احمد الجلوس تحت حمال العفش حتى لا يضايق باقي أفراد الأسرة .بدأت الأمطار تتهاطل بشدة مصحوبة برياح كاد ت تنتزع من فوقهم الخيمة لولا التثبيت المحكم لها الذي تؤازره سواعد أفراد الأسرة وعضلات الراعي بلال المفتولة .كانا ـ أم احمد وأبو احمد ـ يردَادان بعض الأدعية يتخللها تكبير مفاجئ ،كلما لاح برق شديد الضوء، وصاحبه رعد قوي الانفجار, بالمقابل كان الطفلان ـ احمد وفاطمة ـ يحاولان كتمان الضحك الذي يكاد ينفلت منهما بين الفينة والأخرى، ويتوقف عند تكبير أبو احمد الشيخ السبعيني الذي يكره الضحك والمزاح وقت اشتداد المطر والرياح ,بعد عدة ساعات أوشك المطر على النهاية فخرج أبو احمد والراعي بلال كعادتهما لتفقد قطيع الغنم الذي غالبا تستهدفه الصواعق وعن البقرة الحلوب الوحيدة التي تملك أسرة أبو احمد والتي ترتبك كثيرا وقت نزول المطر ويصل الأمر بها أحيانا إلى اصطحاب عجلها إلى وجهة مجهولة, قاد صياح قطيع الغنم الراعي بلال إلى مكانه وعثر أبو أحمد على البقرة بعد سماع صياح عجلها ,مثل الأمر لحظة سعادة متجددة لدى أبو احمد والراعي بلال عقب كل مطر ينزل بأرضهم ويعثران بعده على القطيع والبقرة, عاد أبو احمد والراعي بلال بالقطيع والبقرة وبدأ الراعي بإيقاد النار مع أنها مهمة شاقة بعد المطر, وتحت إصرار بلال صاحب العزيمة الفولاذية اشتعلت النار وأضاءت الفضاء المجاور للخيمة, أخذ أبو أحمد الحبل الذي يربط العجل برجل البقرة وقت الحليب " أززه " والإناء الذي يحلب فيه اللبن بعد تسخينه " التاديت " ناوله للراعي بلال لتسخينه. بدأ ت أم احمد كعادتها بعد المطر بتوزيع بعض التمر والفستق والبسكويت المحلية على الأطفال، بعد أن إصابتهم رجفة شديدة بسبب البرد القارس الذي أعقب الأمطار, في نفس الوقت كانت أم احمد تمسك بقدحين كبيرين لتنظيفهمااستعدادا لاستقبال حليب الراعي وأبو احمد الذين يقومان بحلب البقرة بينما بدأ بلال في حلب الأغنام, بعد نهاية هذه المهمة الشيقة بالنسبة لبلال وأبو احمد أعطى أبو احمد كعادته الأمر للراعي بإعداد الشاي, وطيلة وقت الشاي كان أبو احمد يلوم أم احمد والراعي ويحملهما مسؤولية رضع العجل للبن للبقرة , كانت أم احمد تدافع عن نفسها باستحياء وترد المسؤولية للراعي والطفل احمد. كان حديثا ممتعا ووديا لم تستخدم فيه عبارات الشتم والسب كعادة أبي احمد لان المناخ الذي خلفت الأمطار وراءها كان يساعد كثيرا أبو احمد على الاسترخاء ويدخل على نفسه البهجة والسرور ,خلد ت الصغيرة فاطمة التي بلغت خلايفها العاشر، إلى النوم ..بقي الطفل احمد ـ البالغ اثنتا عشرة سنة من العمرـ مستيقظا يضع رأسه على فخذ أمه التي تقوم من حين لآخر بالنبش في رأسه علها تساعده على النوم أو تعثر على قملة كالعادة. لكن احمد الذي يخاف كثيرا من أبي احمد إلى درجة التبول لمجرد توجيه اللوم إليه كان يسر إلى أمه بخجل من حين لآخر بان تقص عليه قصة من القصص التي كانت تقص عليه جدته "تكبر" التي توفيت على اثر سقوطها من جمل وهي في الثمانين من العمر،وتحت إلحاح الطفل المدلل الوحيد عند أم احمد نزلت الأم عند رغبة الابن وبدأت تقص عليه قصة" الملك العادل"
كان احمد يتفاعل بشكل كبير مع أحداث القصة وكأنها حقيقة ,ينصت جيدا وينظر بتركيز إلى حركات شفاه أمه ويبتسم أحيانا بشكل عفوي وبريء, وكانت أم احمد تضفي على قصتها القصيرة عنصرا مشوقا يثير فضول الطفل احمد وتتحايل على وقت القصة القصيرة لإطالتها بالتباطؤ في حديثها انتهت قصة أم احمد بموت الملك وخلافة ابنه له ,وطلبت من ابنها احمد أن يذكر لها العبر المستفادة من القصة ولما ذكر لها ماطلبت منه أعجبت بطريقة فهمه للقصة فردت عليه :
ـ بارك لله فيك ياولدي. رجائي أن تكون رئيسا للبلاد عندما تكبر..
أجاب الطفل أمه:
لماذا تتمنين لي مستقبلا كهذا ؟
وتسترسل قائلا:
ـ الم تخبرنا جدتي رحمها الله أن كل الرؤساء الذين حكموا هذه البلاد انتقلوا كلهم من هدوء جنان قصورهم المريح ومن أبهتهم وعزتهم إلى هدوء زنازين السجون المظلمة ورتابتها المميته، إلى مذلة السجناء بعد أن نسيهم القريب والبعيد.
أم احمد:
الملك الدائم لله وحده ،قلي يابني كيف ستتصرف عندما تكون رئيسا للبلاد؟
الطفل احمد يجيب بعفوية وصدق وغرور
ـ ساكون صارما ،سأحول البلاد من مقبرتها هذه إلى مستوى البلدان التي نشاهد في التلفزيون, سأشيد في كل الأزقة شوارع بمستوى شوارع العالم الحديث, سأزرع بنفسي في كل شبر من ارض عاصمتنا شجرة ,سأقوم بتنظيف المدن الكبرى من أحياء الفقراء سأبعدهم عن واجهة العاصمة, سأقوم بسجن كل اللصوص بعد بناء اكبر سجن في البلاد, سأقوم باستيراد جميع الأجهزة الطبية المتطورة, سأبني المستشفيات في كل قرية.
ـ ثم ماذا يا بني ؟
ـ سأستبدل الشرطة الوطنية بشرطة تختلف عنها في لون الثياب والسيارات, أول من سيدخل السجن هوذالك الطبيب الذي حقنني بتلك الحقنة المؤلمة والتي كانت سببا في شفائي من" الملا ريا" لأنه لايرحم الفقراء .
ـ ثم ..
ـ سأسجن معلمي عبد الله الذي طالما أوجعني ضربا بسوطه لبلاستيكي كلما عجزت عن قراءة كلمة واحدة أو كتابتها ,كان يمنحني علامات ضعيفة فقط لأنني فقير سأقوم بسجن كل من منى وسيدي وحبيب زملائي في الدراسة عقابا لهم على استفزاز مشاعري وإثارة غيرتي بملابسهم فرنسية الصنع التي كانوا يرتدونها في المدرسة وكانوا يشترون ما شاءوا من الحلويات من حانوت حارس المدرسة إسماعيل بينما كنت أتعذب وأنا ارتدي الملابس الرثة التي كنت تشترين لي من سوق الملابس المستعملة , سأقوم بسجن صاحب الحانوت الذي لم يحرمك أنت ولاابي حين كان يلح عليكم بتسديد ديونه نهاية كل شهر لأنه لايرحم الفقراء, سأقوم بإغلاق جميع البنوك والعيادات الخاصة والمدارس الحرة لان أصحابها لا يرحمون الفقراء..
ستخرجين ياامي أنت وأبو احمد من هذا الواقع البائس إلى حياة الملوك لأنني سأعمل على أن أكون من أغنى الأغنياء في "الصحراء الكبرى," ساطور مزرعة أبو احمد حتى تكون بمستوى مزرعة اكبر رئيس في العالم, سأحارب الفساد بحيث أقوم بنفسي بتسيير أموال الخزينة العامة وميزانيات كل الوزارات بعد إقالة جميع الوزراء لان بلادنا لايوجد بها مواطن صالح, سأوزع وقتي على تسيير كل الوزارات بنفسي سأبقي على نظام الصفقات العمومية على أن لا يستفيد منها إلا محيطنا الضيق وسماسرتنا اواصهارنا, سأستبدل الأطباء بأطباء حقيقيين من المملكة الجارة, واستبدل الأساتذة والمعلمين المعربين بأساتذة ومعلمين متفرنسين من فرنسا وإفريقيا السوداء, سأقوم بحل الأحزاب السياسية على أن ابقي منها حزبا معارضا واحدا بعد الاطمئنان على أن معارضته دستورية, سابقي منظمة غير حكومية واحدة هي منظمة الطبيب الطيب الذي عالج أبي من العمى بعد أن يئس من عودة بصره ,سابقي عيادة خاصة واحدة هي عيادة هذا الطبيب الطيب التي سأعطي الأوامر بمنحها كل الامتيازات, سابقي مصرفا واحدا هومصرفه الذي كان يدفع عن أبي راتب الراعي بلال, سابقي شركة واحدة للتأمين هي شركة أخوك احمد, سأقضي على كل الجرائد والصحف الحرة وسأستثني من هذا القرار مجلة صديق أبي العسكري المتقاعد الذي لايكتب ولا يقرأ لكنه ظريف ولديه نكت طريفة كان يحكيها على أبي , سابقي مجلة الكترونية واحدة هي مجلة ابن الشرطي المتقاعد الذي كان يلعب الورق مع والدي ابواحمد وهو الشاب الذي لايقرأ ولايكتب لكنه مسالم ويتوقف طموحه عند انتحال شخصية رجل الأمن اليقظ , سأصادر جميع زبر الصناع التقليديين وكل معداتهم التقليدية لترمى في الغمامة وذالك حرصا على مستقبل أصحاب هذه المواهب الذين سيدخلون إجباريا في تكوين سريع على إصلاح عجلات السيارات الإيرانية وصناعة قطع غيارها ,كما سأفرض على الفنانين المحليين رمي آلاتهم الموسيقية في الزبالة وان يتوجهوا إلى أعمال اقتصادية نافعة مثل الزراعة والتنمية الحيوانية, سأحول الملعب الاولمبي إلى اكبر جامع تقام فيه" صلاة الزعيم" كل سنة, وملعب العاصمة إلى اكبر "حسينية "يجلد عندها شيعة بلادنا أنفسهم أيام" الجلد الأعظم", سأصادر من الفقراء سياراتهم الخاصة رحمة بهم ورفقا بالشوارع الحديثة وبالبيئة وتنظيفا للعاصمة من القمامة قمامة الكهربائي والميكانيكي ومصلح العجلات وكل مايتعلق بصيانة سيارات الفقراء وسأوجه أصحاب هذه الحرف إلى العمل في البحر بدل البر, سأعمل على أن لا تسير على شوارعنا الحديثة إلا آخر صيحة من" السيارات الاربية والأمريكية واليابانية" سأعمل على تحويل جميع شيوخ القبائل ورموز الفساد إلى متسولين يزاحمون أصحاب المقاعد من أصحاب العاهات عند ملتقيات الطرق الرئيسية وقت توقف السيارات عند الضوء الأحمر, وانتقاما لأهلنا في فلسطين سأطرد السفير الأمريكي وستقوم جرافاتنا الوطنية التابعة لشركتنا الخاصة من بعده بجرف مبنى السفارة تماما كما تجرف الجرافات الإسرائيلية بيوت إخواننا في فلسطين الحبيبة, سابني على أنقاض سفارة العدو مخبزة اسميها "فلسطين" ستقوم بتسييرها أختي فاطمة ومحطة للبنزين اسميها محطة" غزة" يسيرها والدي أبو احمد, وسيجري هذا الحد ث العظيم أمام كامرات الصحافة الدولية, سأحرم على المواطنين قيادة التاكسي التي ستكون من حق إخوتنا السنغاليين فقط عرفانا لهم بالجميل ,سأضبط الحالة المدنية للبلد بحيث نتمكن من شطب أسماء كل الأعراب الرحل حتى لايفسدوامشرع دولتنا الجديدة ولأنني عايشتهم أكثر من غيري خرجت بفكرة أنهم لايصلحون لدولة عصرية لذالك سنستغني عن مواطنتهم ونستبدلهم بمواطنين صالحين من دول الجوار وسنصادر أوراقهم الثبوتية ,وبذالك نخلق قاعدة شعبية منسجمة ومخلصة ومتماسكة تجدد لنا البيعة كلما كانت هناك ضرورة لذالك ,وحفاظا على منصبي سأقوم بإقحام ثلاثة أرباع من الجيش الوطني في معركة ضد عدو مفترض لايرى بالعين المجردة معركة يكون لاحد لنهايتها حتى لايجد قادته وقتا للتفكير في الإطاحة بي, أما الربع الباقي من الجيش فسأوجهه إلى معركة تطهير المدن الكبرى من الأحياء الفقيرة ,ثم يتوجه بعد ذالك لزراعة ضفة النهر الخصبة .سأحتفظ لنفسي بمنصب الحاكم والوالي والمدير ورئيس المصلحة والوزير وقائد الأركان ومناصب قادة المناطق العسكرية وقيادة القوات الخاصة بأمن الرئاسة والمدن .. إلى غاية عودة الجيش من المعركة مع أشباح وعواصف وهواجس "الصحراء الكبرى"....سأفرض على المواطنين الخدمة العسكرية الإجبارية ليحلوا محل قواتنا الباسلة في الدفاع عن الحوزة الترابية إلى غاية عودة الجيش من غزة الصحراء.
وقت إجابة الطفل احمد على سؤال أم احمد كان يتحدث عن تصور صبياني لم ينضج صاحبه بعد ,كان أشبه بمن يحلم مستيقظا, كان يتحدث دون الاستناد إلى أي خبرة ولا ابسط تجربة ,كانت العواطف الجياشة الممزوجة بالآلم البؤس الذي عاش هو وأسرته يوجهان تفكيره بشكل كبير, لقد لعب اليأس والإحباط الدور الكبير في تشكيل شخصية الطفل احمد الناقمة على المجتمع والتاريخ والجغرافيا , لم يكن الطفل احمد قادرا على تصور انعكاسات قراراته على لاقتصاد والسياسة والتاريخ الجغرافيا, لم يكن لدى احمد وقتها أدنى فكرة عن إدارة المجموعات المحلية ,ولاعن التخطيط الاقتصادي, لم تكن لديه ابسط فكرة عن العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية, ولاعن أولويات التنمية الاقتصادية المتوازنة ,ولاعن أهمية التوازن المالي, ولاعن نفوذاللوبيات الصهيونية في العالم, ولاعن تحديات العولمة بمختلف تجلياتها ,ولاعن أهمية نظام اللا مركزية في إدارة الشؤون البشرية ودوره في تكريس الديمقراطية, لم يكن الطفل الصغير احمد يدرك خطورة نبش بعض الملفات العرقية والقومية الحساسة وما قدتسببه من تهديد للأمن والاستقرار وللسلم المدني نظرا لصغر سنه, بدا الرئيس الصغير احمد عاجزا عن فهم العلاقة الوثيقة بين تحقيق مصلحته الخاصة ومصلحة دولته ومجتمعه نظرا لبساطة تصوره وتواضع عقله وهوا لبالغ من العمر 12 سنة والمنتظم في الصف الخامس ابتدائي ,, كان الطفل احمد يتجاهل حقيقة مرة وهو يدركها وحدها من بين الحقائق آنفه الذكر وهي أن العدو الاستراتيجي المفترض والخصم العسكري له الذي يفرط في الاستخفاف به لايزال يحير المدارس العسكرية العالمية المتقدمة وقد انهارت على يده اكبر الاقتصاديات العالمية والأنظمة السياسية الدولية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وقبل نهاية جواب الطفل احمد على سؤالها كانت أم احمد قد استغرقت في سبات نومها العميق ونام احمد ليستيقظ الجميع على صباح يوم جديد من الكفاح البائس والمستمر..
بدأت أم احمد صباحها الجديد بالاستعداد للسفر إلى عاصمة الولاية مع بدئ العام الدراسي الجديد ليلتحق احمد بالصف الخامس ابتدائي وأخته فاطمة بالصف الرابع.