وُلد الشيخ العلامة محمدو
الملقب بداه ولد محمدو ولد حبيب ولد أحمدو ولد ولد البصيري سنة 1338 هــ
سنة 1920م، بعد أربعة أشهر من وفاة والده، متسمّياً باسمه، وتربّى في حجر
جده لأمه الشيخ العلامة محمدو ولد حبيب الرحمن، وحفظ القرآن مبكراً وهو
دون التاسعة من عمره، كما أخذ العلوم على جم كبير من العلماء، من بينهم
الشيخ أحمد ولد أحمذيه الذي أخذ عنه علوم القرآن والتفسير، وظل إلى أيامه
الأخيرة في الدنيا يثني عليه ويقول: "ذلك شيخي أحمدو..من مثل أحمد في
العلماء.."، كما أخذ عن الشيخ المختار ولد ابلول العلامة المصلح والداعية
الشهير، كما أخذ عن الشيخ محمد سالم ولد ألما، والشيخ محمد عالي ولد عدود،
والشيخ سيدي الفالي ولد محمودا، وعُرف الشيخ منذ شبابه بالورع والصرامة في
الحق والدفاع عن السنة والحرص على نشر الخير والدفاع عن الدعاة إلى الله.
وفي سنة 1957نزل الشيخ بداه ولد البصيري في سهل نواكشوط، حينما لم يكن
ساكنتها يبلغون مئة شخص، واستقر به المقام في القرية التي ستكون في ما بعد
عاصمة نواكشوط بعد أن ظل لسنوات يسأل الله تعالى أن "ييسر الله له منزلاً
في الحضر يقرأ فيه كتبه"، ويروي تلاميذ الشيخ أنه في إحدى رحلات البدو،
وأمام إلحاح من ساكنة القرية آنذاك وتهديدهم باللجوء إلى القضاء لثني
الشيخ بداه عن الرحيل عنهم أقام الشيخ محظرته ومسجده لينطلق من بيت صغير
من الطين إشعاع محظرة وتاريخ علم من أعلام الإسلام والمسلمين.
وانطلق الشيخ يدرس ويفتي ويصلح بين الناس، وكان يحب طلابه غاية الحب،
ويأسف كلما غادر أحد الطلاب المحظرة، قبل أن يستكمل النظام الدراسي
القديم، كما حافظ على دروسه العامة، وخصوصاً درس التفسير الذي بدأه في
مساجد البادية، عندما أجازه شيخه العلامة أحمدو ولد أحمذيه في التفسير
والقرآن، والذي أجازه في نظمه "مراقي الأواه في تفسير كتاب الله"، وهوكتاب
منظوم في أكثر من سبعة آلاف بيت، جمع فيه صاحبه زبدة التفسير من سبعة كتب
من كبار كتب التفسير، وكان الشيخ "بداه" يولي درس التفسير عناية خاصة،
وعلى الرغم من موسوعيته الفائقة، فقد كان يقوم بالتحضير للدرس، وظل
محافظاً عليه إلى سنواته الأخيرة في نواكشوط قبل أن يقعده المرض.
درس الشيخ كل فنون المعرفة الشرعية فقهاً وتفسيراً ولغة ومنطقاً وبلاغة، و
كان مدينة علم مسوّرة بالإيمان والإحسان، وكان صورة طبق الأصل من الرعيل
الأول، فيه تدفق مالك وموسوعيته، ونحو ابن مالك وفصاحته وبلاغته، وفيه من
البخاري ومسلم الصحيحان والمسانيد، وكان إمام الحرمين في الأصول، والعز بن
عبد السلام في الصدع بالحق. وكان الجنيدي وعبد الله بن المبارك في
الموسوعية والعلم والعبادة والربانية، وكان أب الدعاة إلى الله ومأواهم
وإمامهم؛ فالشيخ فقيد الإسلام وفقيد الوطن، ورحيله خسارة لمئات السنين من
علم الشناقطة، وآلاف المجلدات من العلوم والفنون والمعارف..
مواقف في الحق
عُرف عن الشيخ "بداه" صدعه بالحق ودفاعه عن المظلوم فيه، ولايزال الجميع
يتذكر خطبه الصادعة بالحق أيام طغيان العقيد معاوية ولد الطايع، ووقوفه
الصريح في وجه كثير من المخططات التي تواجه هوية البلد ودينه والعمل
الإسلامي بشكل عام.
عهد على قول الحق
يروي تلاميذ الشيخ "بداه" أنه أخذ على الرئيس الأسبق المختار ولد داداه
العهد على أنه يتركه يصدع بما يرى أنه الحق، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت
خطب الشيخ تغيظ بعض أطراف الحكم آنذاك، وقد استدعي أكثر من مرة للمساءلة
من قبل القائمين على التوجيه الإسلامي وكان رده دائماً "إما أن تتركوني
أقول ما أراني الله أو أترك لكم المنبر".
وحينما اشتعلت الحرب الطاحنة بين الجيش الموريتاني والجيش الصحراوي،
اعتبرها الشيخ فتنة بين المسلمين، وعلى عكس بعض الفقهاء الذين قالوا إن
قتلى الجيش الموريتاني شهداء لايُغسّلون ولا يُكفّنون، كان الشيخ "بداه"
يقول: "إن الحزم عكس ذلك غسلوهم وكفنوهم وصلوا عليهم"، على الرغم من أن
عدداً كبيراً من الفقهاء أفتوا بعكس ماذهب إليه "بداه"، ولكن بعضهم -سامحه
الله- عاد وأفتى بأن الحرب فتنة بين المسلمين، لكن ذلك كان بعد سقوط ولد
داداه، وسعي العسكر إلى إنهاء الحرب مع الصحراويين.
وقفة ضد العلمانية
ويتذكر الجميع مواقفه الصارمة ضد محاولات الأنظمة السياسية، وبعض النخب
الثقافية والسياسية في البلد؛ لتمرير بعض المراسيم والنظم التي رأى فيها
الشيخ "بداه" خطراً على الهوية الثقافية للبلد.
ومن الأمثلة في ذلك وقوفه الصارم ضد دستور 1982 المخالف للشريعة
الإسلامية؛ إذ كان العلامة ضمن عدد من الأئمة والعلماء وقادة التيار
الإسلامي حينها حجر العثرة الأبرز التي أدت إلى سقوط الدستور المذكور،
الذي يوصف بأنه دستور علماني جداً.
وألّف الشيخ "بداه" كتاباً صدّ هجوم القوانين الوضعية، الذي مثل صفعة كبيرة للنظام السياسي الحاكم آنذاك.
و عندما استنكر الإمام مجزرة النظام السوري ضد الإخوان المسلمين في حماه،
احتج السفير السوري في موريتانيا على خطبة الإمام "بداه"، ليقوم وزير
الإعلام آنذاك بعقد اجتماع مصغر عاجل ضم رئيس الدولة المقدم محمد خونه ولد
هيداله ووزير الإعلام نفسه والإمام "بداه"، وأمام احتجاج الرئيس ووزير
إعلامه على الخطبة واعتبارها خروجاً على سياسة الدولة، غضب الشيخ بداه،
وخاطب ولد هيدالة قائلاً: "أنا لا أخاف منك، ولامن غيرك، ولا أبصر أي شيء
مما تستند إليه، وإذا كنت ستتحكم فيما أقول، وما أرى فخذ المنبر، ودعني
أذهب لشأني". وخرج الشيخ مغضباً.
ويروي مقربون من الشيخ كيف رد على رسالة رئيس الدولة حينئذ تحذره من "خطر
الإسلاميين على البلاد" رد الشيخ "بداه" قائلاً: "إن الإسلاميين خير
للبلاد من الشيوعيين والبعثيين، وسيرى رئيس الدولة مصداق ذلك".
وكما رفض الشيخ البصيري الإفتاء بأن قتلى حرب الصحراء شهداء، رفض أيضاً
الإفتاء بأن منفذي "الكوماندوز" 16/مارس 1981 محاربون، رافضاً إصدار فتوى
عامة بشأن المحاربين، وينقل بعض المقربين من الشيخ حواره الساخن مع رئيس
اللجنة العسكرية حينئذ الذي غضب من موقف الشيخ فرد عليه "بداه": "لن أفتي
بما تريدون ..العسكر مثل كلاب الفلاة، كلما اجتمع ثلاثة أكلوا واحداً
منهم، ولن أفتي فتوى عامة حتى يأتي كل متغلب فيقتل صاحبه، ويقول إنه
محارب".
ضد التطبيع والديكتاتورية
بعد الإطاحة بولد هيدالة، ووأد مشروع تطبيق الشريعة وظهور نظام سياسي
جديد، لم يخف الشيخ "بداه" عدم ارتياحه للنظام الجديد وخصوصا الإشارات
التي بدأ ولد الطايع يصدرها تجاه قضايا اعتبرها الشيخ مركزية في صون هوية
البلد وسمْته العام، ولم يكن الشيخ يخفي استياءه مما يعتبره وجهاً من أوجه
العلمانية الصارخة في البلاد، تمثله خطوات عديدة لولد الطايع، وعلى الرغم
من ذلك حافظ الشيخ على وسطيته وعلاقته الأبوية بالجميع، رافضاً أن يكون
طرفاً في أي صراع، أو أن يمرر النظام السياسي مواقفه من خلال منبر الشيخ
أو مواقفه.
ووقف الشيخ بشكل صارم ضد فتنة 1989، وأكد موقف الإسلام من الاقتتال بين
المسلمين، داعياً إلى التوحد ونبذ الخلاف، وكان لخطبه دور كبير في تحجيم
الخسائر الكبيرة التي كادت أن تؤدي إلى مقتلة عظيمة بين شعبين مسلمين هما
السنغال وموريتانيا.
ولاحقاً عندما شن النظام الطائعي حملته سنة 1994 على الإسلاميين وقف الشيخ
بداه وقفة صارمة ضد الاعتقالات، مؤكداً "أن الإخوان المسلمين لا يقتلون
النفس التي حرم الله ولايزنون، وأنهم برآء من كل ما يرمون به"، ولم تقف
جهود الشيخ عند هذا الحد، بل بذل النصح للنظام الطائعي، وطالبه بإطلاق
سراح الأئمة المعتقلين.
ويذكر طلابه عندما أرسلت إليه إدارة أمن الدولة الموريتانية أحد ضباط
الشرطة لكي يتأكد من صحة تزكية أصدرها الشيخ "بداه" للأئمة الإسلاميين
المعتقلين آنذاك، فانتهره "بداه"، وانتزع من يده ورقة التزكية وقال له:
"كنت أرى أن على من ابتُلي بما ابتُليت به أن يستتر بستر الله، وألاّ
يواجه الناس كاشفاً عن وجهه، وأما التزكية فأنا كتبتها، ولست من يخفي
موقفه، أو يتراجع عنه". ثم طلب منه أن يخرج فوراً حتى لا يشغله عن الدرس،
وانصرف الضابط يجر أذيال الخيبة.
ومع بداية التطبيع أحس الشيخ "بداه" بخطر كبير على الهوية الثقافية للبلد،
وكان يؤكد لطلابه أنه لم يعد يطيق أرضاً ترفرف فيها راية إسرائيل.
وعندما دعاه بعض طلابه إلى أن يسلك سبيل المهادنة، ويخفف من حدة خطبه رفض
قائلاً: "ما وقفت على هذا المنبر وتذكرت غير الله، ولا أخاف أحداً حتى
أهادنه". كما كان يؤكد أنه "أب الجميع، ويدعو الجميع إلى الالتحام".
اطّلاع واسع
بحسب طلاب الشيخ فقد كان قارئا نهماً، وتشهد المكتبة الضخمة للشيخ بذلك،
وقد قلّ أن يخلو كتاب في المكتبة من حواش وتعليقات للشيخ "بداه"، ويؤكد
هؤلاء أنه قرأ فتاوي ابن تيمية وهي (35) جزءاً، وسجل تعليقاته واستدراكاته
على هوامش كل الأجزاء.
كما اهتم الشيخ "بداه" بالناتج الفكري الإسلامي المعاصر، وكان يعبر عن
إعجابه الشديد بالإمام حسن البنا وفكره الإصلاحي، ويؤكد تلاميذه أن الشيخ
قرأ رسالة التعاليم للإمام البنا، وأُعجب بمضامينها، كما كان يطلب من
تلاميذه أن يقرؤوا عليه مذكرات الإمام البنا، وكتب الشيخ سعيد حوى،
ويعتبرهما من خيرة المؤلفين، وتزخر مكتبة الشيخ "بداه" بعشرات الكتب التي
تعالج قضايا الفكر الإسلامي، وكان يقول: "أنا من الدعاة، وأنا أبو الدعاة،
وكل العاملين للإسلام أبنائي".
ويذكر الموريتانيون كيف وقف بقوة ضد محاولات البعض المس من جماعة الدعوة
والتبليغ قائلاً: "إنهم قوم ربانيون أولو بركة وسمْت، ومن لم يخرج معهم،
فلا أقل من أن يدعهم وشأنهم". وأكثر من ذلك كان يرحل إليهم في مركزهم
الكبير في نواكشوط ويحاضر في المركز المذكور، و كان يدعوهم إلى التفقه في
الدين والتعلم.
حرب ضد البدعة والتقليد
خاض الشيخ "بداه" حرباً شعواء ضد "الفقهاء الجامدين"، وخصوصاً أولئك الذين
انتقدوا عليه إقامة صلاة الجمعة، وكان يرد على الجميع بأدب جمّ، وعلم
وافر، مؤكداً أنه إنما يردّ من خلال الوحيين، وعليهما يبني رؤيته وفقهه
ومقاصده، وبين تقليد جامد وتجديد يلغي الفقه وتراث العلماء وقف الشيخ
"بداه" مؤسساً معالم فقه تجديدي يعيد للمدرسة المالكية ألقها ونضارتها
وبهاءها.
وتشهد مؤلفات الشيخ "بداه" المتعددة، تعدد معارفه وموسوعيته على ذلك الجهد
الكبير في مجال التأصيل ورد الفروع إلى الوحيين، كل ذلك في أدب جمّ يحسن
الربط بين النص وتفسيره ورأي العلماء فيه.
كما خاض الشيخ "بداه" معركة شرسة ضد من أقاموا أسواراً بين مدراس الفقه
الإسلامي، وألّف في ذلك عدة كتب من بينها "تنبيه الخلف الحاضر على أن
تفويض السلف لاينافي الأخذ بالظواهر، وأسنى المسالك في أن من عمل بالراجح
ما خرج عن مذهب الإمام مالك" وكتابه "حجر الأساس في شرعة خير الناس،
والقول المفيد في ذم قادح الاتباع ومادح التقليد".
ولعل مذهبه التجديدي هو ما خلّده في بيتين ذائعين في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
تقيّ الدين أحمدُ لا يُبارى
بميدان العلوم ولا يُجارى
برئتُ إلى المهيمن من سماعي
مقالاتٍ يُسبُّ بها جهارا
وكان يؤكد الشيخ "بداه" يؤكد في حواراته مع الفقهاء المتمذهبين "ثقوا
بأنكم ستُسألون في قبوركم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس عن أي أحد
آخر".
و على الرغم من ذلك ظل الشيخ يحفظ للعلماء مكانتهم، وينهى طلابه عن
الاستدلال ببعض مقولاته في التشنيع على بعض المقلدين، قائلاً: "تلك مقولات
قلتها وأنا في حال جدال وغضب".
وقد ترك الشيخ ما يقارب (40) كتاباً بين نثر ونظم، توزعتها قضايا العقيدة والفقه والأصول والسيرة النبوية، إضافة إلى مئات الفتاوى.
ربانية وارفة الظلال
حافظ الشيخ "بداه" على برنامج تربوي وتدريسي متميز، مكّن الآلاف من أبناء
موريتانيا من الاستفادة من علمه الجم، ومن تواضعه العظيم، ومن إبائه
ووقوفه في الحق.
ويؤكد خُلَّص طلابه على أنه ظل محافظاً طوال حياته على ورد قرآني صارم،
فكان يتلو بصوت عذب كل صباح قبل أن يصلي الفجر سبعة أحزاب من القرآن، وظل
يحافظ على هذا الورد إلى آخر أيامه.
كما كان الشيخ يقف عند مقاصد القرآن ويبصر عظمة الله في كتابه "فقد بكى
عندما قال: (قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)،
فبكى لأنه أحس معنى الشهود، أما الآخرون فكانوا يبكون عند ذكر اسم النار
والحديث عن حسيسها"، يقول أحد طلاب الشيخ.
ويروي أحد طلابه الذين لازموه عدة سنين أنه كان مدمن الصوم، لايكاد يفطر، وربما ختم القرآن كل ليلة في رمضان.
أحب الشيخ "بداه" الله والإسلام؛ فقذف الله محبته في قلوب الناس، ووضع له
القبول في الأرض، فكان مثالاً للرجل الصالح سيرة وسريرة، ومثالاً للإمام
العلامة.
فعلى ضريحه المبارك السلام والرحمة، وعلى جدثه الطيب شآبيب الغفران، وما
مات من ترك وراءه ذكراً طيباً كالذي ترك الشيخ "بداه"، ورحل إلى قمة عالية
من الإيمان والإخلاص والإحسان كتلك التي قدم الشيخ "بداه".
وله ولمثله وهو قليل ينشد الدهر والناس والفقه والفقهاء
قضى "ابن البصيري" حين لم يبق مشرقٌ
ولامغربٌ إلاّ له منه مــــادحُ
فما أنا من رزءٍ وإن جلّ جازعُ
ولا بسرورٍ بعد موتِك فارحُ